قطع مئات اللبنانيين في الأشهر الماضية المئتي كيلومتر جواً، بين بلادهم وجزيرة قبرص ليستقروا فيها، ولو موقتاً، هرباً من جحيم الأزمة في بلادهم، حيث انقطاع الكهرباء، وشح الوقود، والأدوية، وانسد الأفق.

بعد رحلةٍ منتظرة بفارغ الصبر رغم أنها لا تتجاوز 25 دقيقة، خرجت اللبنانية نانور أباشيان مع زوجها وطفليهما من مطار لارنكا قادمة من بيروت، يجرون سبع حقائب معظمها كبيرة الحجم.

وقالت لوكالة فرانس برس: “وجعي كبير جداً لأني تركتُ بلدي وأهلي، لكني مجبرة على ذلك، لأني أريد أن أربي ولدي بعز وكرامة وضمان مستقبلهما”.

ويشهد لبنان أزمة اقتصادية حادة منذ نحو عامين صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ 1850.

ويعجز اللبنانيون عن سحب أموالهم من المصارف بسبب قيود إثر شحّ السيولة، وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية بنسبة تفوق 90%، وفقد كثيرون وظائفهم.

في الوقت نفسه، ينقطع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار والليل، ولا يوجد مازوت في السوق لتشغيل المولدات الكهربائية. وينعكس ذلك على كل جوانب الحياة. كما يشهد البلد أزمات أدوية، وخبز، ومواد أخرى أساسية.

وغادر آلاف اللبنانيين البلاد على وقع الأزمة. واختار كثيرون منهم قبرص، ولم يكن في إمكان وكالة فرانس برس الحصول على عددهم بالتحديد، في غياب إحصاء رسمي بعد، ودخول البعض بجوازات سفر غير لبنانية.

لكن السفيرة اللبنانية في قبرص كلود الحجل أكدت لفرانس برس أنه منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية في لبنان ضد الطبقة السياسية “لاحظنا زيادة كبيرة في عدد الملفات العائلية التي فُتحت في السفارة وسجلنا الزيادة الأكبر بعد انفجار 4 أغسطس (آب)” في مرفأ بيروت الذي أسفر عن أكثر من 200 قتيل و6 آلاف جريح ودمّر أجزاء كاملة من العاصمة.

وهي ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها اللبنانيون بكثافة الى قبرص. فخلال الحرب الأهلية 1975-1990، انتقل عدد كبير منهم إلى الجزيرة، عاد قسم كبير منهم بعد انتهاء الحرب.

وقالت الحجل: “في الثمانينات، كان هناك 100 ألف ملف عائلي مسجّل في السفارة”.

وفي حرب يوليو (تموز) 2006 بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، شكلت قبرص قاعدةً خلفية للبنان.

ففي ظل إقفال مطار بيروت الذي تعرض لقصف إسرائيلي، انطلقت سفن إجلاء من بيروت ونقلت الأجانب إلى الجزيرة ليغادروا إلى بلدانهم. كما نقلت لبنانيين عاشوا في قبرص فترة موقتة، في انتظار انتهاء الأعمال العسكرية.

والتقت فرانس برس عائلة نانور في منزلها شمال بيروت قبل يومين من سفرها الى قبرص. وقالت الوالدة الشابة يومها بينما كانت تحزم أمتعتها بحسرة: “قررت مغادرة لبنان لأننا لم نعد نشعر بالأمان، أصبحنا في المجهول، بتنا نعيش في الذل”.

وانتقلت العائلة للعيش مؤقتاً في منزل صديق بلارنكا في انتظار استئجار شقة قريبة من المدرسة التي سجّلت فيها ولديها. وتسابقت عشرات العائلات في الأسابيع الماضية على تسجيل أولادها في المدارس.

واضطر اللبناني جورج عبيد لتسجيل أبنائه الثلاثة في مدرستين مختلفتين في لارنكا، لقلة الأماكن في مدرسة واحدة.

وقال الأربعيني لفرانس برس: “لا نرى أفقاً للعام الدراسي في لبنان. المازوت غير متوفر لتشغيل المولدات، والأساتذة لن يحصلوا على علاوة ليتمكنوا من التعليم، ولن يستطيعوا ملء سياراتهم بالبنزين ليذهبوا إلى المدارس”.

إلا أن معاناة العائلة لا تنتهي هنا. فجورج لن يستقر مع زوجته وولديهما في قبرص، بحكم عمله بين لبنان وإفريقيا، إنما سيزورهم في العطل الأسبوعية.

في العاصمة نيقوسيا، تلقت المدرسة الفرنسية خاصةً عشرات طلبات التسجيل بسبب قرب برنامجها الدراسي من برامج المدارس الفرنكفونية العديدة في لبنان. ولم تتمكن من تلبيتها كلها، كما أفاد لبنانيون قادمون حديثاً.

وحاولت فرانس برس التواصل مع إدارة المدرسة للاستفسار، لكنها لم تتلق رداً، بسبب انشغال المسؤولين بالتحضير لاستقبال عدد هائل جديد من التلامي، فيما أرجئ موعد دخول المدرسة للتلاميذ الذين سجلوا بعد 24 أغسطس (آب).

وتحدث لبنانيون ومسؤولون قبارصة عن أكثر من 250 طلب تسجيل للبنانيين في المدرسة.

وإذا كانت بعض العائلات قصدت قبرص بحثاً عن الأمان والتعليم والاستقرار، ولو مؤقتاً، فإن لبنانيين آخرين وجدوا فيها أيضاً مكاناً للعمل والاستثمار.

وقال المسؤول عن قسم التجارة والصناعة في وزارة التجارة كونستانتينوس كارايوريبس إن السلطات القبرصية “أطلقت مساراً سريعاً لتسجيل الشركات الأجنبية في أكتوبر(تشرين الأول) الماضي”، وأن “هذه الآلية لقيت اهتماماً كبيراً من شركات لبنانية، إذ سجّلت حتى الآن 7 شركات كبرى ومتوسطة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ونقلت معها 200 موظف لبناني”.

وتوقّع أن يرتفع العدد بنهاية العام، لأن عائلات موظفين كثيرين ستنتقل أيضاً إلى الجزيرة.

ولفتت السفيرة اللبنانية إلى أن “قبرص تساعد اللبنانيين كثيراً”، مضيفةً أنه، بموجب آلية المسار السريع لمعاملات تأسيس الشركات “أصبح الأمر يستغرق 10 إلى 15 يوماً بدل شهرين أو ثلاثة في الماضي”.

ورأى كارايورييس أن انتقال هذا العدد الكبير من الشركات اللبنانية سينعكس إيجاباً على الاقتصاد القبرصي عبر “إنفاق موظفي هذه الشركات رواتبهم العالية إجمالاً” في السوق القبرصية، مشيراً الى أن “المنفعة الأهم هي انتقال المعرفة من الشركات الأجنبية إلى المحلية”.

وشهد قطاع العقارات في الجزيرة المتوسطية الهادئة من جهته ارتفاعاً في الطلب على شراء الشقق من  لبنانيين.

وقال رجل الأعمال اللبناني جورج شهوان، صاحب عشرات المشاريع العقارية في قبرص: “شركتنا باعت 400 شقة لعائلات لبنانية بين 2016 و2021، مئة منها في الأشهر الستة الماضية”.

وأشار إلى أن اللبنانيين يختارون الجزيرة العضو في الاتحاد الأوروبي للاستثمار والاستقرار، لأنها تقدّم حوافز عدة، فهي “تمنح الإقامة مدى الحياة لكل من يملك فيها عقاراً جديداً، كما أن المصارف القبرصية تسهل معاملات الحصول على قروض للبنانيين الذين لديهم مدخول بالدولار”.

وقال شهوان “منذ 1975، شكلت قبرص ملاذاً آمناً للبنانيين”، مضيفاً “إنها قريبة وتتمتع بالأمن والاستقرار. يشعرون فيها بأنهم في بلدهم الثاني”.