الرئيسية / كتاب وآراء / أين تُضرب المطرقة ،،، بقلم هاشم القلاف

أين تُضرب المطرقة ،،، بقلم هاشم القلاف

في ميناء برشلونة التجاري حيث تقف العديد من الباخرات لتـتزود بالطعام والوقود وتواصل طريقها لموطنها ، تعطلت إحدى السفن التجارية الضخمة ، وكان محركها الأساسي لا يعمل ، فاستعان أهل السفينة بذوي الكفاءة من الفنيين لإصلاحها ، ولكن بعد محاولات دامت لأسبوع لم يفلح أحد منهم بإصلاحها .

أشار أحد العاملين بالميناء على ربان السفينة بالاستعانة رجل كبير في السن كان يعمل مهندساً ميكانيكياً للسفن ، ولديه من الخبرة ما قد يساهم في إصلاحها ، فوافق الربان على ذلك .

أتى العجوز إلى السفينة مع حقيبة عدةٍ بالية كسنين عمره ، فتفحص المحرك قطعة تلو القطعة ،وبعد ساعة من التدقيق أخرج من حقيبته مطرقةً وضرب قطعةً في المحرك بعض الضربات ، ثم شغل المحرك ليعود إلى العمل بكل كفاءة .

وعندما سأله ربان السفينة عن تكلفة الصيانة ، قال : 10.000 يورو ، فصُعِقَ الربان لهذه التكلفة الباهظة مقابل عدة ضربات بالمطرقة فقط ، فطلب منه مستنكراً تفصيل الفاتورة .

فكتب له على ورقة : 5 يورو لخمس ضربات بالمطرقة ، 9.995 أين تُضرب المطرقة .

الفرق بين المهندس العجوز وربان السفينة ، أن المهندس يعرف قيمة المعلومات ويُطالب بها ، بينما الربان يرى الأمور بتجرد ظاهري وأن الأمر ليس أكثر من خمس ضربات بالمطرقة وتناسى أن خلف الطرق عقلاً واعياً يعلم مكان الخلل وكيفية إصلاحه .

الناس لا تعرف قيمة المعلومة … هذه احدى مآسي الحياة الأزلية .

منذ القِدم وكانت المعلومة من أكثر البضائع كساداً ، وأقلهم قيمة في أعين الناس ، فلن تجد رسولاً إلا وقد جحد الناس كتابه ، وازدروا كل بَـيّنات الحق الواردة فيه ، وقالوا له : {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} .

يكمن الخلل في المنطق الذي تُقاس به القيمة ، فعادة ما يقيس الناس الأشياء بمردودها المادي المباشر ، وبحجم انتفاعهم منها ، وسأضرب لك مثالاً :

لو أني أمتلك معلومة عن الأسهم والبورصة ستجعلك تربح ضعف ما تملك ، فإن المعلومة ستختلف قيمتها من تاجر لآخر ، فالتاجر الذي يملك عشرة آلاف وستتضاعف أرباحه لعشرين ألفاً ، قد يشتري مني المعلومة بخمسة آلاف ، بينما التاجر الذي يملك مليون دينار وسيربح مليوني دينار قد يشتري مني المعلومة بخمس مائة ألف دينار ، ورغم أنها المعلومة ذاتها إلا أن حجم انتفاعهم منها كان مختلفاً .

ولو أن هنالك معلومة قيّمة ولكنك لن تنتفع منها فغالباً لن ترى لها ثمناً ، و الأسوأ أن تكون تلك المعلومة ذات مردود معنوي وغير مباشر كمعلومات حول التربية ، فالأعزب لن يرى قيمةً لكتاب يتحدث عن تربية الأبناء ومشاكل المراهقين ، لذلك دائماً ما ستكون هنالك معلومات يُظلم حقها بالتقييم .

واليوم وفي وسط التطور التكنولوجي .. زاد الطين طيناً وبلة ، فقد أصبحت المعلومات مجانية على الإنترنت ، وأصبح بإمكانك تحميل الموسوعات العلمية بلمسة على شاشة الهاتف ، والكتب التي كان يقتتل بعض الناس عليها قديماً ولا يعيرونها لأحد أمست يُقام لها الإعلانات لتُحَمِّلها بالمجان في يومنا هذا ، وهذا ما زاد الكتب والمعلومات ازدراءً وفقاً لقانون العرض والطلب والذي يقول : ” لو زاد الطلب وقل العرض تعلو القيمة ، ولو زاد العرض وقل الطلب تقل القيمة ” ، فالكتب والمعلومات متوفرة بكثرة ، أكثر بكثير من الطلب الواقع عليها ، وهذا ما يجعل قيمة المعلومة تنحدر أكثر فأكثر ، ولذلك لن تجد اليوم كالشاعر الذي مَـرَّ به صديق ليستعير منه كتاباً فأنشد قائلاً :

ألا أيها المستعيرُ الكتابَ  ألا ارجعْ بغيرِ الذي تطلبُ

فلمس السماء وأخذ النجوم بكفِّكَ من أخذهِ أقربُ

في الدراسات التي قام بها دكتور علم الاقتصاد السلوكي George Loewenstein جورج لوينشتاين تحدث عن أشكال زهد الناس في المعلومة وأسبابه ، فرأى أن الناس تزهد في الحصول على المعلومات التي بالمجان ، وترفض دفع المال مقابل المعلومات نظراً لوجودها بالمجان ، وبين ” حانه ومانه ” تُظلم المعلومة .

والناس تزهد أيضاً في المعلومات المخالفة لمعتقداتهم وأفكارهم ، فنادراً ما ستجد مسيحياً يدفع ثمناً لشراء القرآن ، وفي عالم التواصل الاجتماعي يُفضّل الناس متابعة من يميل لأفكارهم ويُشابهها ، لأنهم سيرون من المعلومات ما يوافق أهواءهم ، بل إن برمجة البرامج الاجتماعية معتمدة على ذلك ، ففكرة ( الإعجاب Like ) قائمة على تفضيل ما راق لك .

ويقول الدكتور جورج أن زهد الناس بالمعلومة يكون أحياناً بسبب عوامل المتعة ، مثل الحد من القلق أو عدم الشعور بالندم والأسى ، أو للحفاظ على حالة التفاؤل ، فكما يقول د. جورج قد تشتري شيئاً وترفض سماع معلومة عن سعر السلعة في المحلات الأخرى كي لا تعرف أنه يُباع بسعر أرخص فتندم على شرائه ، ويقول أيضاً أن كثير من الرياضيين – في الرياضات الفردية كالرماية – يفضلون عدم معرفة معلومات عن خصومهم لأن ذلك يشعرهم بالقلق ، وقوة الخصوم قد تعدم روح التفاؤل فيهم .

وفي دراسته تتبع د. جورج العديد من الرياضين الذين زهدوا في المعلومات ، وكان لذلك مردود نفسي إيجابي مباشر وأبعد عنهم القلق ، إلا أنه على المدى الطويل لموسم سنوي كامل تأثر الرياضيون سلبياً لزهدهم بتلك المعلومات .

تماماً كما حصل مع العديد من أصحاب الشركات الذين زهدوا في المعلومات حول الخصوم والسوق والتي ظنوا أنها قد تُؤثر سلباً على حالتهم النفسية ، إلا أنهم خسروا لتركهم سماع المعلومة .

وهذا يُنبئك أن الزهد بالمعلومة لا يُقلل من حقيقة قيمتها ، بل إن الزاهد فيها هو الخاسر الأكبر ، فاغتنم المعلومة حق اغتنامها .

وينبغي لنا التساؤل كيف يمكن معالجة اضطهاد قيمة المعلومة ؟

الكتب والمعلومات تعكس حقيقة ذواتنا وطريقة تفكيرنا ، ولو كنا فارغين داخلياً فلن نرى للمعلومة – وإن كانت عظيمة – أي قيمة ، وكما يقول الكاتب والشاعر الألماني : جورج كريستوف لشتينبرغ : الكتاب مرآة إذا نظر فيها القرد فلن يرى قسيساً .

لذلك يجب أن نرمم ما بداخلنا ، برفع مستوى تفكيرنا واختيار أهداف وتخصصات تليق بعقولنا ، لكي تعرف قيمة المعلومة التي تقرأها وتبحث عنها ، وتنتفع منها .

وإن لم يكن هنالك مجال محدد يستهويك ، فكُن كما قال عباس محمود العقاد : يقول لك المرشدوناقرأ ما ينفعك ولكني أقول بل انتفع بما تقرأ .

وكلما زاد انتفاعك بما تقرأ زادت قيمته في عينيك ، فتدبَّـر ما تقرأ .

وأخيراً … أرجو أن تكون هذه المدونة ومقالاتها التي بين يديك قَيّمة وتمنح قارئها إضافة ونفعاً جميلاً في حياته.

عن ALHAKEA

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*