جديد الحقيقة
الرئيسية / كتاب وآراء / طارق البكرى يكتب : رسالة اليك ايها الاديب الشاب

طارق البكرى يكتب : رسالة اليك ايها الاديب الشاب

“الكاتب : حاصل على جائزة الملك عبد الله الثانى للابداع”

بعد حمد الله، وشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، أقول وبالله التوفيق؛ لقد رغَّب إليَّ بعض الكتاب الناشئين النابهين من الشباب والشابات، المنشغلين والمنشغلات في أدب الطفل وإعلامه عموماً وقصصه خصوصاً، أن أكتب لهم شيئاً عن فن الكتابة للطفل، أودع فيه بعضاً مما اختبرته في مجال إعلام الطفولة وآدابها..

وأسعدني هؤلاء الظانين بي ظن الخير، والمتوقعين مني أن أكتب لهم مسنداً يتضمن ما لم يأت به السابقون الأولون.. وأغفلوا أنَّ هذا الأمر جد صعب، لا يحسنه البسطاء مثلي، فما أنا إلا كاتب مهموم، استوطن الطفولة وأحلامها.. فتملَّصت منهم زمناً طويلاً لا استجيب لدعواتهم ولما يرونه فيَّ مخطئين، وشغلت جلَّ وقتي بما هو متاح من العمر بالكتابة للطفل نفسه.

لكنَّ الأحبة من طلبة العلم الأوفياء، وأدباء الطفل النبلاء، كرروا طلبهم ملحين، فوجدت نفسي مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير منكر، فقررت بعد التوكل على الله تعالى واستشارة بعض أساتذتي الفضلاء أنْ أنحو هذا السبيل، محاولاً كتابة رسالة قصيرة، أوجز في طياتها ما أعتقد صوابه في الكتابة للطفل، وأحسب أنها ربما تكون للأدباء الجدد عوناً ، وفي ترسيخ مفهوم هذا الأدب الراقي لهم مساعداً، على أمل أن يكون كل واحد منهم شمعة على الطريق.. فإن استفادوا بما سيأتي؛ فنعم ما هو، وهذا مقصدي ومرادي، وإن كانت رسالتي قاصرة فأسال الله أن يغفر لي زلاتي ويتجاوز عن أخطائي، وعذري أني حاولت واجتهدت، ولمن راودني عن هذه المحاولة استجبت..

ولن أوغل في البيان، ولن أستفيض في تبيان شيء معروف معلوم.. ولن أناقش كثيراً ما كتب في الماضي والحاضر، ولن أقتبس مما جاء في الكتب، بل سأجمع أمري، وأقدم بنات أفكاري، وما حصدته من خبرة تراكمت عبر سنين في الكتابة والنشر والقراءة والعمل الإعلامي والتدريس الجامعي والتدريب، إضافة إلى ما سمعته مباشرة من آراء لصغار في كثير من البلاد التي زرتها.

الكتابة للطفل غواية

أيها الصديق الأديب الشاب المبدع؛
اعلم أنَّ الكتابة للطفل ليست غاية في حد ذاتها أو سبيلاً لغاية، بل هي غواية عند الأديب المحب المجد، يقصدها الجامحون المولعون بلا تطلعات أو أهدافه ذاتية، هم يتلذذون إذا كتبوا، ويستمتعون إذا انتهوا، لا يمنعهم بلاء ولا وباء، ولا قلة نشر أو انتشار، ولا مانع من الموانع من المضي قدماً كالثوار، مؤملين النفس بجيل من الأحرار، يمشون بصبر وإصرار، ولا يملون الانتظار، حتى وإن لم يكن الحصاد الطيب سريعاً وفيراً.. وكانت الظلمة السخية على الدرب جاثمة والأنوار الساطعة ضعيفة باهتة.

إذا كنت أيها القاص الواعد النجيب، والكاتب الصاعد الأريب، مهما كانت وظيفتك؛ مدرساً أو صحافياً أو مديراً أو طبيباً.. أو مراقباً في مخزن للأدوية.. إذا كنت مؤمناً بالطفولة ومستقبلها، باراً بها وبعهودها، واثقاً بدور أدب الطفل في صقلها، فامش في طريقك ثابتاً غير عابئ بما تصادفه من مصاعب..
وأمَّا إذا كان الأمر عندك فيه إضافات ومطالب شخصية؛ فلا بأس أن تمضي أيضاً على الدرب نفسه، ما دمت صابراً محتسباً، صادقاً مخلصاً، ولا يوجد ما يمنع بأن تفكر بالمردود المالي الذي يعينك على متابعة هذا الطريق الوعر، ما دام فيما تكتبه فائدة للطفولة ومستقبلها على أن لا يكون هذا الهدف في صدارة أهدافك.

الكتابة للطفل عطاء وبناء

لتكن الكلمة التي تكتبها للأطفال جميعاً كأنها خاصة بأبنائك وبناتك، لأنَّ الكلمة الموجهة للطفل يجب أن تكون منبر عطاء وبناء، لا آلة هدم وإفناء، فكم من شيء قدم للأطفال أساء و، وكم من نوايا صالحة أضرت أكثر من النوايا الطالحة.. لذا على كاتب الطفولة المبدع أن يحصِّن نفسه ويعدها الإعداد الأمثل، ويتزوَّد بكثير من الأدوات حتى يقدر على ولوج الزمن واختراق المدى، وصولاً إلى عالم الطفل الصغير.

ولعلك تشاهد أكثر مما أشاهد على الفضائيات، وتقرأ أكثر مما أقرأ على صفحات الصحف والمجلات والكتب، موصوفاً بأنه للطفل وللناشئ؛ وهو لا يصلح لهم، ولا حتى للأكبر سناً، فزماننا اليوم كثر فيه الغث، وأصبح كل شيء سريعاً.. الأكلات سريعة، المحادثات، الساعات التعليمية.. العلاقات الأسرية والاجتماعية.. إنه في الحقيقة زمن يصلح أن نطلق عليه زمن (البريستو).. وكم أخشى أن يأتي الزمان القادم بأدهى مما نرى وأمر.

من هنا تزداد خطورتك وأهميتك أيها الأديب الأريب، فهل هنالك أسمى ممن يقدم للطفل عصارة أفكاره، وعزف أوتاره.. ليعزف معهم لحن البناء، ويلهم خيالهم بكرم وسخاء، ويبني مجد مستقبلهم بعيداً عن آفة الغلو والتعصب والكراهية والعنف والفساد.

شخصية الكاتب
ولنبدأ أولاً من عندك أيها الكاتب الناشئ.. فقد تشرفت خلال رحلتي الطويلة نسبياً في عالم أدب الطفل وإعلامه بلقاء عدد كبير من الكتَّاب المجيدين الذين تحمسوا كثيراً في بداية مشوارهم لأدب الطفل، بَيدَ أنَّ معظمهم كما تحمسوا؛ انحسروا مرة واحدة. ومنهم من آثر الابتعاد بهدوء دون صخب، ومنهم من هجر الأدب والإعلام كلية.. ومنهم من يئس وتوجه لوجه أدبي وإعلامي آخر.. لأسباب، ليس مقالنا الآن أواناً مناسباً أو مكاناً ملائماً لذكرها.. أما أنا، فما زلت – كما بدأت – أحني رأسي تأدباً وإجلالاً أمام سمو الطفولة ومكانتها، وكأني أسيرها.

وقد صادفت على الدرب العديد من الأحبة؛ تساقط كثير منهم، ولم يتابعوا المشوار، أما الذين صمدوا فقليل ما هم.. وأعتقد إلى حد بعيد أن الكتابة للطفل جزء من شخصية الكاتب.. والقصة الطفلية يجب أن تكون محور روح المؤلف، أما أن تكتب وترص الحروف والكلمات خلف بعضها بعضاً، وتزين وتلون دون غوص في شخصيتك فلا تكون أنت جزءاً من قصتك كما تكون هي جزءاً منك؛ فاعذرني أيها الكاتب المحب.. فإن قصتك وإن أعجبت كثيراً من الأطفال، ونالت ما نالت من الجوائز؛ تبقى قاصرة لأنها لم تخرج من أحشائك.. فالقصة عندي تشبه كاتبها.. كما يشبه الولد أبيه وأمه. وكما أن الولد سر أبيه فإنَّ القصة هي أيضاً سرُّ كاتبها.
وأصدقك القول أيها الصديق العزيز: لا تعوِّل كثيراً على تنامي اهتمام المتابعين العابرين الهامشيين بنصك الأدبي.. ولا بكثرة مدحهم لك وثنائهم عليك، فكم من برامج ونصوص “هامشية” تعرض على المحطات الفضائية ويلتم حولها الملايين.. وكم من كتابات على الأنترنت وفي الصحف والمجلات.. وهي في الحقيقة لا ترقى لتكون فناً ولا أدباً..

وثق أن العبرة ليست بكثرة المتابعين.. بل بجودة ما تقدمه. سواء قبلته دور النشر أم لم تقبله.. وسواء فاز بجائزة أم لم يفز.. لأن النص الطفولي الحي لا يحيا حقيقة ويخلد إلا إذا خرج من القلب ولم يدخل إلى الجيب.. وهنا أقول وأردد أمامك أيها الكاتب المحب المجد وأشدد على ذلك: حذار حذار من البحث عن الجوائز ليل نهار، فتصبح الجوائز همَّك في سرِّك وجهرك، تسعى إليها بكل همة ونشاط ومنافسة تخرجك من براءة الطفولة التي يجب أن تكلل نشاطك، فتكون الجائزة شغلك الشاغل، ويصبح التمجيد هدفك الفاعل، لا جمهور الأطفال القراء..

ولعل هذا أكثر ما استغربه من بعض دور النشر والكتاب والرسامين الذين يسعون كثيراً – وبعضهم يلهث – وراء الجوائز، كبيرها وصغيرها، حتى إن منهم من لا هم له إلا الفوز، بغض النظر عن وصول النص، وَهدف النص، إلى جمهور الأطفال المستهدفين من عدمه.. ولا أعني بالوصول هنا ما هو “مادي”.. بل كل ما هو معنوي.

وأود هنا أن أوضح لك أمراً آخر بالغ القصد.. برجاء ألا تحسبني أعارض فوزك وسعيك ونشاطك، لكني بشكل محدد لا أستسيغ أن يصبح الوصول إلى الطفل من خلال أدبه وإعلامه أمراً ثانوياً، وتصبح الجائزة ومن ورائها وأمامها “المادة” هي المقصد ذاتها.. فلا تخطئ في فهم موقفي ووجهة نظري، الجوائز مهمة في نظري إلى أبلغ حدود.. لكن يجب ألا تكون الهدف الأوحد.. بل يجب أن تعتبرها من الأدوات المهمة جداً لتحقيق الأهداف الأسمى والأهم.

وأوضح لك أكثر؛ فقد تلقيت اتصالاً قبل سنوات من كاتبة ناشئة.. حدثتني باهتمام عن قصص الطفل، وأخبرتني أنها تحب الحكايات وكتابة القصص.. فباركت لها اهتمامها بما تحب، ثم صعقتني بعد ذلك بقولها إنها تفكر – لاحظ أنها ما زالت في مرحلة التفكير – في كتابة قصتها الأولى، لكن تريد أولاً أن تعرف بكم “تبيع” القصة للناشر.. فماذا أنتظر من قاص يريد بيع فكرته قبل أن ينجزها.. وقلت في نفسي حَنِقاً: بماذا أصف قاصاً لم “يتقصقص” بعد.. ومع ذلك يسأل عن سعر قصته الأولى، التي لم يكتبها؟!.

أمَّا أنا فأزعم أنَّ أديب الطفولة الذي نريده ليس أديباً مادياً، يعير المصلحة الخاصة اهتماماً بالغاً، ولا يضع المردود المالي على رأس قائمة أولياته ولا حتى أسفلها، وليس هذا كلاماً مثالياً غارقاً في أحلام وناسجاً من خيال.. فمعظم كتاب الأطفال العرب يعملون في مجالات أخرى، وإن لم نقل كلهم، فهم ينفقون على إنتاجهم ولا ينفق عليهم. إن كاتب الأطفال يحمل هماً ورسالة.. لذا أدعو كل كاتب طفولي ناشئ أن يتأمل قولي ويتبصر.

واعلم أيها العزيز أنه خلال دراستي لأدب الطفل في الجامعة في مراحلها المختلفة، وكذلك خلال قراءتي لكثير من كتب أدب الطفل وكتب التربية وكتب إعلام الطفل، لم أقتنع بكثير مما في تورده هذه الكتب، وبالرغم من أني علمت في الجامعة مادة أدب الطفل، فإني لم أقتنع أيضاً بكثير مما كنت أعلمه، ومنها التقسيم العمري للطفل، تربوياً وتعليمياً، وما تضمنته هذه المضامين من أفكار..

وأعجب أشد العجب ممن ما يزال يتمسك حتى اليوم بتقسيمات الطفولة ومراحلها التقليدية، ويرددها كالببغاء في كل كتاب وبحث ولقاء ومحاضرة بثقة، كمسلَّمة لا شِية فيها، علماً أنه مضى على هذه الآراء زمنا طويلا، وتغيرت مفاهيم الطفولة وأمزجتها، ولم يعد طفل القرن الواحد والعشرين يشبه بحال طفل القرن الماضي، وبات زمانهم غير زماننا.. وحتى أنت اليوم لا تشبه أنت الأمس..

لذا أعتقد أنه يجب التخلص من هذه التقسيمات في أدب الطفل وإعادة النظر فيها، بل في كل ما يوجه للطفل، وخاصة في الدراسات التربوية والإعلامية والتعلمية، واعتبارها شيئاً من الماضي المنقرض، تعلم على أساس أنها كانت أشياء معتمدة وانتهت، مثلها مثل كثير من الأدوية التي كانت تستخدم لأمراض معينة، فيكتشف العلم مع تطور الدراسات والأدوات ما يجعلها من الماضي.. فكلنا نعرف مثلاً أن الريشة كانت أداة للكتابة؛ فأين هي اليوم؟ وكلنا نعلم ما هي الأقراص المرنة (فلوبي)، لكن لا أحد بات يستعمل ريشة الطيور للكتابة، كما أن أجهزة الحاسوب الحديثة لم تعد تستقبل الأقراص المرنة، وبات الـ(فلاش ماموري) سيد الحافظين..

ومع تغير الكثير من المفاهيم ما تزال التقسيمات الماضية للطفولة كما هي منذ عقود طويلة، وكلما قرأت كتابا جديداً في التربية أو التعليم أو في أدب الطفل أو إعلامه، أجده يردد تلك التقسيمات، ولا يتورع عن تردادها كقاعدة حتمية، وحتى في المحاضرات والندوات يصر بعض المحاضرين على ذكرها، مع كل الملل الذي يراه على وجوه الحاضرين.

فن النص الطفولي
ولتعلم أيَّها الأديب العتيد النابه؛ أنَّ النص الطفولي مثل أي نص آخر، لكن بما أنه يقصد جمهوراً خاصاً، فإنه يحتاج لكاتب خاص، يمتلك حسَّاً طفولياً صادقاً، ونفساً طفولية متَّقدة متجذرة، يعيش الطفولة بتفاصيلها، وليس مجرد هاو مجرب، يقتحم هذا المجال بكلمات يكتبها ويرى لها بعض الرواج، فيظن واهماً أن الكتابة للطفل سهلة الانقياد هينة طيعة، كما يعتقد كثير من الناس، وخاصة في بلادنا، لأننا لا نعطي الطفولة مكانتها، ولا نعي أهميتها المستقبلية كما يجب، فنبحث عن الرخيص من البرامج والنصوص، ونذهب هنا وهناك لكي نملأ مكتبة الطفل ومحطاته التلفزيونية ومجلاته الورقية أو الإلكترونية، ونعدو خلف ألعابه الإلكترونية.. فينشأ الطفل على غير الشاكلة التي نريدها، ومن هنا يأتي دورك الكبير أيها الكاتب الناشئ.. فدورك ليس مجرد رص الكلمات خلف بعضها، أو صوغ نصوص مضحكة مسلية، أو تلحين أنغام تطرب الطفل وتنومه، أو تصوير برامج أو دبلجة أفلام ومسلسلات تلقى في عقول الصغار حتى تفقدهم كيانهم..

واعلم أيها الأديب الأريب اللبيب إنَّ فن النص الطفولي ليس بهذه البساطة التي يتوهمها البعض، فهذا الفن عالي القمة شديد الهمة، وعر السبيل يحتاج إلى دليل، لا يسلكه بجدارة غير فنان تصحبه المهارة، قادر على فهم الشخصية الطفولية بكل جوانبها، لكي يضطلع بمهمة صياغة البنى التحتية البشرية، وما دمت قد قررت أن تكون كاتباً للطفل فإن عليك مسؤولية كل ذلك، أما إن كان في نفسك غير هذا؛ فليس لك حظ من الكتابة للطفل غير ما في نفسك.
ولكتابة النص الجيد أسس مذكورة معروفة ومبادئ منصوصة، وأدوات منشورة في كثير من المراجع، ولن أعيد تكرارها وتوصيفها، وإن كان لي فيها رأي موافق في جانب ومخالف في آخر، ولربما أنبئك بتفاصيلها لاحقاً إن كان للعمر بقية وهي كثيرة متعددة..

ولأعجب ممن قرر فجأة أن يكون كاتباً للأطفال، دون أي أدوات خاصة، وإرهاصات سابقة، فكيف تقرر – يا ابن أخي – هذا القرار الخطير وأنت لم تقرأ من مجلات الأطفال غير عناوين أغلفتها، ولم تحفظ من أغنيات الأطفال غير ما سمعته من أيام الطفولة، ولم تقرأ في أدب الطفل سوى مغامرات الرجل الخارق، ولم تلعب مع الأطفال ولم تزر مدارسهم وأنديتهم وأسرة مستشفياتهم.. ولم تعرف عن الأطفال وأمزجتهم وصنوفهم ومشاعرهم وكتبهم وتربيتهم سوى القليل القليل.
وأقول لكَ.. فعِ مقالي جيداً..
إنه وبالرغم من أن البعض – وأكرر البعض – قد ينجح لإخلاصه وتسخيره تجاربه السابقة في هذا النجاح، فأني أزعم أن على هذا البعض أن يستكمل أدواته، ولا يتوقف عند ما حققه من نجاح، ويعضده بالفكر المستجد والتهذيب المتواصل، والمذاكرة والمداومة على أدب الطفل الجيد، لكي يذوق الكلمة الحلوة وينعم بأنق اللفظ الجميل المنعش، ويعيش النغم الباعث المتجدد المتوالد، فيذوي في الحرف ويذوب فيه، فينحته نحتاً، حتى يبري بعضه بعضاً ويثري الواحد الآخر.. فهذه صنعة ماهر وعصا ساحر.

ولعلي لا أبتعد كثيراً إذا قلت إن كاتب الطفل المتميز، أديباً كان أو إعلامياً أو صحافياً، لا يكتمل عمله بغير صانع محترف مبدع فنان، من رسام ومخرج وممثل ومدير مسرح وخطاط ولغوي وتربوي، وما يتصل بذلك من أدوات تصوير وطباعة وورق وموسيقى وديكور وغير ذلك مما يتصل بالنص حسب نوع العمل المقدم للطفل من غير تحديد وفي كل المجالات. وحبذا لو تسلح كل واحد من هؤلاء بمعلومات نفسية وتربوية ولغوية، وأن يعين هؤلاء متخصصون في مجالاتهم ليخرج العمل على أفضل ما نتمنى.

ومن الخطأ الظن – أيها الأديب الناشئ – أن شخصاً مثل ديزني نجح لوحده، فهم يعملون ضمن فرق عمل، تفكر وتبدع وتنتج مجتمعة، والنجاح يكون للمجموعة وليس للفرد، ولا أقلل من شأن الكاتب المبدع، لكن الإبداع الجماعي يكون له من الأثر الكبير ما يعجز عنه الكاتب الأديب والصحافي اللامع والإعلامي الأريب والمخرج والممثل والرسام والموسيقي.. كل واحد بمفرده..

لننظر مثلاً إلى فيلم ملأ الدنيا ضجيجاً.. الكاتب المؤلف وحده لا يكفي لصناعة هذا الفيلم.. مئات الأشخاص عملوا على النجاح.. الفكرة تحتاج إلى أيد كثيرة لتصبح ذات تأثير عميق مستمر.. وربما نحن في العالم العربي تحديداً ما زلنا في البداية في مجال الطفل وأدبه وإعلامه، لجهل كثير من الناس وخاصة أصحاب السلطة والمال لأهمية هذا النوع التربوي البناء.. وأعتقد أن فيلماً واحداً يعد بطريقة صحيحة سليمة مؤثرة.. قادر على تقديم ما تعجز عنه آلاف المحاضرات والساعات التعليمية.. إن ساعة تلفزيونية واحدة منتجة بعناية فائقة وبدقة بالغة وبسخاء نادر؛ يمكنها صناعة ما عجز عنه الكثيرون، لكن من أين تأتي هذه الساعة إذا كنا حتى الساعة نستقي معظم برامجنا من الغرب.. نأخذها منهم جاهزة.. ونعيد تقديمها لأطفالنا كما هي، سواء بلغتها الأصلية أو مترجمة أو مدبلجة.. دون مراعاة أحياناً أنها صيغت أساساً لمجتمع غير مجتمعنا.. ولطفل غير طفلنا.

ولعلي لا أبتعد قليلاً – أيها العزيز – لو تمنيت عليك أن تشغل نفسك وفنك وأدبك فيما تعرف وتدرك، وتنغمس في شيء محدد من أدب الطفل وإعلامه وفنونه المختلفة حتى النخاع، ولا تكن كذلك الأديب الذي كان قاصاً فانهمك من بعد ذلك بالشعر ثم بالموسيقى والتمثيل والإخراج وضاع بينها.. أو ذاك الذي سحره بريق الصحافة السياسية فلم يعد يهتم بعالم الطفولة، وكأن الطفولة كانت مرحلة من حياته ومضت، وهذا يعني أننا في عالم أدب الطفل خسرنا الكثير، لأن مجال الطفولة لا يفتح شهية الكتَّاب والأدباء والإعلاميين..

ولا تقل إني تعبت، ولا تجعل نفسك ضحية هذا الفن، لأنك في النهاية أنت الرابح الجامح، فمن أفضل علماً وعملاً وأدباً وفناً ممن يخصص علمه وعمله وأدبه وفنه للأطفال، ويستبدل عالم الكبار بعالم الصغار، ويأمل أن يعطي ويعطي حتى ينتج ثماراً يانعة تغطي عجز الأجيال السابقة عن البناء، وما نحن فيه اليوم من ضياع وتيه لدليل حق عما نعانيه.

واجعل من وقتك فترة طويلة لقراءة الأعمال المتميزة في فن الطفولة، ومشاهدة البرامج على أنواعها، ولا تكن مجرد مشاهد أو قارئ سلبي.. لأنَّ عليك أن تنمي قدرة النقد الإيجابي عندك، وأن لا تقبل النصوص والمشاهد كما هي، بل حلل وقارن وناقش.. ثم استنتج.. ولا تكن كحال الكثيرين الذين تتجمد عندهم اللحظة، فيتلقفون كل شيء.. نعم كل شيء، حتى لو كان قبيحاً.. ويستمتعون به بعد أن يعتادوا القبيح ثم يدمنونه، وهنا لا أحسبك مستعداً لهذا، لكن عليك أن تقاوم وتصمد، لأن ما يتساقط على رؤوسنا هذه الأيام.. أكبر من أن يُتحمل بسهولة..

وما تحسب أني قائل لك بعد أيها المستقبلي الآتي؟
هل تظن أن وجودك في عالم الطفولة سيضمن لك الترفيه والتسلية والمرح، أو سيحمل لك ما تتمناه من رفاه ومكانة ومال..!
إن كنت تظن ذلك فقد تفلح، وقد تحقق ما تريد وأكثر، لكنك في الحقيقة لن تنجح مع الطفولة، كما أنها لن تنجح معك، ولو صفق لك المصفقون وطبل المطبلون حتى تمل منهم..
فإن كان هذا ظنك وسعيك فلا تتعب قلبي وقلبك.. فهناك كثير مثلك ممن يتمنون من الدنيا ما تتمنى ويرجون منها ما تترجى، لكن العبرة تكمن فيما يثمر من زرع ويحصد من حصاد.
ولكم شاهدت من يسعى للمجد على ظهر الطفولة، وإنما العبرة في الخواتيم.

الإخلاص ليس مهمة مستحيلة

وأعتقد أيها العزيز أن الإخلاص للطفولة يجب أن يكون أولوية الأولويات بالنسبة للكاتب وللمجتمع عموماً، وقبل أي شيء آخر، وأزعم أن ما نحصده اليوم من مشكلات تعم بلادنا من قيم ومفاهيم دخلية على مجتمعاتنا ليست سوى نتاج إهمالنا للطفولة ردحا طويلاً من الزمن، ولكم زرت أماكن وأندية عديدة للأطفال؛ فوجدت كثيراً من العاملين فيها ليسوا أكثر من موظفين يؤدون مهمة وينصرفون.

ولا أحسب أني أريد الإطالة في هذا الجانب.. بالرغم من خطورته الشديدة، لكني أحببت أن أنبهك أيها الأديب الصاعد بأن الإخلاص للطفولة يجب أن يكون رأس العمل كله، فإذا وجدت في نفسك ذلك فهذا ما نأمله فيك، أما إذا شعرت بتذبذب، فعليك أن تعيد صياغة إخلاصك كما تعيد صياغة كلماتك ونصك.

التشدد في اللغة

وقد وجدتُ براعة في كثير من النصوص من حيث اللغة، لكني لا أحبذ التشدد وركوب الصعب، وأن نجعل من النص وكأنه درساً في اللغة العربية، أو قاموساً نسعى من خلاله إلى تعليم الطفل المفردات الجديدة بكثافة. وبالرغم من أهمية تعليم الطفل للغته، فإنَّ شحن النص القصير بعدد كبير من المفردات الأعلى من قاموس الطفل الصغير، ينفر الطفل عن القراءة ويبعده عنها.

وهنا قد تقول إنَّ القاموس الطفولي اليوم اختلف كثيراً عن قاموس الطفل القديم، وهو يحتاج إلى جرعات إضافية نظراً لبعده عن اللغة ومزاحمة اللغات الأجنبية له، لكني أذكرك بأن الطبيب يعطي المريض الدواء شيئاً فشيئاً.. حتى يقدِّر الله له الشفاء من الداء، ولا يعطيه الجرعات دفعة واحدة، بل قليلاً قليلاً، وهذا ما نبه عليه كثير من العلماء، وأوصوا به، فنحنُ اليوم بحاجة إلى كمية كبيرة من التشويق والإثارة في النصوص والبرامج التي نريد عرضها على الطفل، أكثر مما نحن بحاجة إلى الكلمات الموحشة الشديدة الصعوبة. فلنستخدم الكلمات والعبارات التي يفهمها من أجل توصيل الأفكار التي نريدها.

وتأكد أن الطفل سوف يقبل لاحقاً على معرفة اللغة مع مرور الوقت عندما يحب القراءة ويغرم بها، أما إذا كره القراءة والكتاب منذ البداية، فلن نستطيع بسهولة فيما بعد أن نعيده إلى الطريق المرغوب، فقد يكون الأوان قد فات، والصعوبة عندها سوف تزداد.
ولا أريد ان أحدثك عما أشعر به من همٍّ وقلق ورهبة عندما أطلع على بعض المقررات الدراسية لمواد اللغة العربية، وحتى بعض المواد العلمية الأخرى، حيث أجد أن هناك من يقحم بعض النصوص إقحاماً، ويختار شيئاً كتب للكبار ولا يناسب الصغار، يضعه لأبنائنا الأعزاء بالرغم مما فيه من صعوبة، في الشكل والمضمون، وربما وجدت مقالات سياسية أو فلسفية… واختيارات من هنا وهناك تشتت عقول الأطفال، وتبغضهم للدراسة وللكتاب.. ولا تخفى أخطار ذلك عليك أيها الكاتب الحبيب.

الخيال.. الواقع

الخيال شيء رائع ممتع، ومن الأطفال لا يحب الخيال.. والإبداعات الإنسانية كانت كلها خيالاً في خيال، ألا تنظر معي إلى حلم السابقين بالتحليق مثل الطيور، والسباحة في عمق البحار مثل الأسماك والقروش.. كثير من الأشياء تحققت بعد أن كانت خيالاً، فكم جميل هو الخيال الممتمع المفيد، وكم نحتاج لكي نعمل بكل جد ونشاط على تنمية خيال الطفل بشكل واسع، أوسع من الأحلام، وأكبر من الواقع، وهذا ما نحتاجه اليوم أكثر مما مضى، مع ربط الخيال بشكل أو بآخر بالواقع، دون أن نحرف الجماليات التي يتحلى بها الطفل عن طريقها، بل نساعده على تنميتها، والاستفادة منها لتطوير ذاته ووصولها إلى أقصى ما يحلم ويتمنى.

 

 

عن ALHAKEA

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*